فصل: الحكم الثالث: هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المعنى الإجمالي:

أخبر الباري تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن مقام النبي الرفيع، وشرفه السامي فبين أنه أحق بالمؤمنين من أنفسهم، وأن حقه أعظم من حقوق أنفسهم عليهم، وأن أمره ينبغي أن يقدم على كل أمر، وحبه ينبغي أن يفوق كل حب، فلا يعصى له أمر، ولا يخالف في صغيرة أو كبيرة، لأن ذلك من مقتضى ولايته العامة عليهم، فإذا دعاهم إلى الجهاد عليهم أن يلبوا أمره مسرعين ولا ينتظروا أمر والد أو والدة، فإنه صلوات الله عليه بمنزلة الوالد لهم، لا يريد لهم إلا الخير، ولا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم.
وكما شرف الله رسوله الكريم فجعل حقه أعظم الحقوق كذلك فقد شرف زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن، وحرم نكاحهن على الرجال، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظا لحرمته في حياته وبعد وفاته، وذلك من الخصوصيات التي خص الله تعالى بها رسوله الكريم، ثم بين تعالى أن ذوي الأرحام أحق بإرث بعضهم البعض من الغير، فالقريب النسيب أحق بميراث قريبه من الأجنبي البعيد إلا إذا أراد الإنسان الوصية فإن الأجنبي يكون أحق من القريب لأنه لا وصية لوارث، وهذا الحكم ألا وهو توريث القريب دون الأجنبي هو حكم الله العادل الذي أنزله في دستوره وكتابه المبين، وجعله حكما لازما مسطرا لا يمحى، والله تعالى أعلم.

.وجه الارتباط بالآيات السابقة:

في الآيات السابقة أمر الله المؤمنين بالتخلي عن التبني، كما أمر بدعوة الأبناء الأدعياء لآبائهم ونسبتهم إليهم، وقد كان الرسول الكريم متبنيا زيد بن حارثة فلما أمر بالتخلي عنه وبدعوته إلى أبيه أصابت زيدا وحشة، فجاءت هذه الآية عقبها تسلية لزيد، ولبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن تخلى عن أبوته فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا دون تفريق بين ابن من الصلب وغيره، لأن ولايته صلى الله عليه وسلم باقية دائمة، فالرسول أحق بالمؤمن من نفسه، وهو كذلك أحق من كل قريب، فهو الآمر الناهي بما يحقق للناس السعادة، وهو الأب الروحي لكل مؤمن ومؤمنة، وزوجاته الطاهرات هن أمهات للمؤمنين، فلا ينبغي للمؤمن أن يحزن إن تخلى النبي عن أبوته من التبني لأن أبوته الروحية باقية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على لامؤمنين أن يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم، وأن حكمه عليه السلام أنفذ من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها وصدق عليه السلام حين قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أحمعين»، اللهم ارزقنا محبته، وارزقنا اتباعه، واجعله شفيعا لنا يوم الدين.

.سبب النزول:

1- روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهيز والخروج، فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فأنزل الله تعالى فيهم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}.
2- وروى القرطبي في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرته جنازة سأل هل على صاحبها دين؟ فإن قالوا: لا، صلى عليها، وإن قالوا نعم قال: صلوا على صاحبكم، قال: فلما فتح الله عليه الفتوح قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأيما مؤمن ترك مالا ضويق العصبة فيه، وإن ترك دينا، أو ضياعا عيالا ضياعا فلياتني فأنا مولاه».
قال ابن العربي: فانقلبت الآن الحال بسبب الذنوب. فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه. فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتبيينه، ولا عطر بعد عروس.
ملاحظة: الأول هو السبب والثاني أي ما رواه البخاري هو تفسير لمعنى الولاية فتنبه.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: لم يذكر في الآية الكريمة ما تكون في الأولوية بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثم إنه ما دام أولى من النفس فهو أولى من جميع الناس بالطريق الأولى.
اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى أن أزواج النبي هن أمهات المؤمنين فيكون النبي صلى الله عليه وسلم على هذا هو الأب للمؤمنين وقد جاء في مصحف أبي بن كعب {وهو أب لهم} وقد سمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حكها يا غلام أي أمحها فقال ابن عباس إنها في مصحف أبي، فذهب إليه عمر فسأله فقال له أبي: إنه كان يلهيني القرآن، ويلهيك الصفق بالأسواق.
وأما قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} ففيه تشبيه يسمى التشبيه البليغ فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام: أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، وهذا كما تقول: محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء.
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {بعضهم أولى ببعض} مجاز بالحذف تقدير الكلام: أولى بميراث بعض أو بنفع بعض كما قال الألوسي، وإنما يفهم تخصيص الأولوية هنا بالميراث من سياق الكلام إذ المسلمون جميعا بعضهم أولى ببعض في التناصر والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم كما ورد في الحديث الشريف؛ فلا تكون الأولوية بين أولى الأرحام إلا بالإرث إذ لا وجه لتخصيصهم بالنصرة أو الجماعة أو التعاون فإن ذلك واجب لجميع المسلمين.
تنبيه:
جمهور المفسرين على أن من في قوله تعالى: {من المؤمنين والمهاجرين} هي ابتدائية وليست بيانية وأن المفضل عليه هم المؤمنون والمهاجرون والمفضل هم {وأولو الأرحام} كما تقول: زيد أفضل من عمرو، فالمفضل زيد والمفضل عليه هو عمرو، ويكون المعنى كما أسلفنا أولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين.
وأجاز الزمخشري أن تكون من بيانية ويكون المعنى: أولو الأرحام أي الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أحق بميراث بعضهم بعضا من الأجانب، وقد رد هذا القول ابن العربي في كتابه أحكام القرآن. وقال ما نصه: إن حرف الجر يتعلق بأولى لما فيه من معنى الفعل لا بقوله أولو الأرحام بإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها، وهذا حل إشكالها.

.وجوه القراءات:

قرأ الجمهور {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}.
قال أبو السعود: وقرئ: {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم} أي في الدين، فإن كل نبي أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية، ولذلك صار المؤمنون إخوة.
أقول: هذه القراءة تحمل على أنها تفسير لقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} وهي قراءة عبد الله وكذلك في مصحف أبي بن كعب فإذا كان أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، فهو عليه السلام أب للمؤمنين، ولا شك أن الأب الروحي أعظم قدرا من الأب الجسدي، وقد قال مجاهد: كل نبي أب لأمته، يعني في الدين.

.وجوه الإعراب:

أولا: قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين} النبي مبتدأ و{أولى} خبر والجار والمجرور متعلق ب {أولى} لأن أفعل التفضيل يعمل عمل الفعل.
ثانيا: قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} مبتدأ وخبر، على حد قولهم: أبو يوسف أبو حنيفة، أي يقوم مقامه ويسد مسده، والمعنى: إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بهن، احتراما للنبي عليه السلام. أفاده ابن الأنباري.
ثالثا: قوله تعالى: {إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا} الاستثناء هنا يحتمل أن يكون متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا.
فعلى الأول: يكون استثناء من أعم الأحوال، ويكون المعنى: إن أولى الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين في جميع الأحوال. إلا أن يكون لكم في هؤلاء وصي تريدون أن توصوا إليه فذلك جائز.
وعلى الثاني: يكون تخصيص الأولوية بالميراث، ويكون المعنى: أولو الأرحام أولى بميراث بعضهم بعضا، لكن إذا أسديتم إلى أوليائكم معروفا فذلك جائز، بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام، وهذا الوجه اختاره ابن الأنباري وغيره من العلماء.
قال ابن الجوزي: وهذا الاستثناء ليس من الأول أي أنه ليس متصلا بل هو منقطع والمعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز، فالمعروف هاهنا الوصية.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل يجب على الإمام قضاء دين الفقراء من المسلمين؟

قال بعض أهل العلم إنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال ديون الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال في الحديث الشريف: «وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه».
أي فعلي قضاء دينه ورعاية أولاده، والإمام خليفة عن رسول الله يجب عليه قضاء ديون الفقراء من المسلمين. ولا شك أن هذا استنباط دقيق فعلى الدولة أن ترعى أمور الفقراء وتكفل مصالح الناس، وترعى شؤونهم وذريتهم.

.الحكم الثاني: هل زوجات الرسول أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟

قال ابن العربي: اختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء؟ أم هن أمهات الرجال؟ خاصة على قولين:
أ- فقيل إنه عام في الرجال والنساء.
ب- وقيل إنه خاص بالرجال فقط.
قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة، والحل غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأة قالت لعائشة: يا أماه، فقالت لها: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم.
قال القرطبي: قلت لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيما لحقهن على الرجال والنساء، يدل على صدر الآية: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل عليه قراءة أبي {وهو أب لهم} أقول: لعل الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم.

.الحكم الثالث: هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؟

استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} [الأحزاب: 53] واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواء من طلقت منهن ومن لم تطلق؟ وسواء أكانت مدخولا بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين:
أ- ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم سواء طلقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن، وهذا ظاهر الآية الكريمة.
ب- وصحح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط، واستدل بما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها، فكف عنه، وفي رواية: أنه هم برجمها فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب علي حجاب، ولا سميت للمسلمين أما، فكف عنها.
الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أن الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط، فلو طلقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك، أما مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن المستعيذة وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد الدخول عليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ فألحقها بأهلها، وكانت تقول: أنا الشقية، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع، شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

.الحكم الرابع: هل يورث ذوو الأرحام؟

المراد من قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} أن أصحاب القرابة مطلقا أولى بميراث بعض الأجانب، وهذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب المؤاخاة والنصرة أو بسبب الهجرة، فقد كان المهاجري يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثم نسخ الحكم وأصبح التوارث بالقرابة النسبية.
وقد أخذ بعض الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن ذوي الأرحام- وهم الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبات- كالخال والعمة وأولاد البنات وغيرهم أحق بالإرث من بيت مال المسلمين، وهذا هو مذهب الحنفية وجمهور الفقهاء، ودليلهم في ذلك أن الآية اقتضت بأن ذوي القرابة مطلقا سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم أصحاب قرابة رحمية أحق بالإرث من الأجانب، فالآية تشمل كل قريب للميت. كما استدلوا بأن بيت مال المسلمين تربطه مع الميت رابطة الأخوة في الدين، وذوو الأرحام تربطهم معه أخوة الدين مع شيء آخر وهو قرابة الرحم فأصبح لهم قرابتان: قرابة الدين، وقرابة الرحم، وهذا يشبه ما إذا مات إنسان عن أخ شقيق، وأخ لأب فإن المال كله يكون للشقيق لأن قرابته من جهتين: من جهة الأب ومن جهة الأم فتكون أقوى من قرابة الأخ لأب لأنه من جهة واحدة فكذلك ذوو الأرحام. وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى عدم توريث ذوي الأرحام وقال: إن بيت مال المسلمين أحق بالإرث فيما إذا لم يكن للميت عصبة أو أصحاب فروض أو من يرد عليه منهم فيصبح المال من نصيب المسلمين ويعطى لبيت المال، وحجته في ذلك أن التوريث لابد فيه من نص في كتاب أو سنة ولا يمكن أن يكون بالعقل أو الرأي ولم يرد في توريث ذوي الأرحام نص قاطع، فلا يورثون إذا ويكون الإرث لبيت المال.
الترجيح: والصحيح هو ما ذهب إليه الحنفية وجمهور الفقهاء من توريث ذووي الأرحام فهو الظاهر من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة. والبحث مفصل في علم الفرائض فليرجع إليه.